بقلم :جواد انكادي
في تازغين يمر اليوم متثاقلا وتتمايل عقارب الساعة تمايل شراب الرحيق، يصبح الوقت بلا معنى ولا دليل وتستحيل الأفكار ضربا من الهلوسة، فتجد الوقت كاف لتسأل وتفكر في كل شيء وتصطدم الأفكار على صخرة النسيان .
كأن تقوم في الصباح وتسأل البحر عن الذاهبين بلا وداع؛ كم التهم من وجوه فجعلها قبورا تسير بلا وجهة وبلا مآل، وعن جثة لفظتها الأمواج ولم ندر صاحبها وكيف عاش، وأي أحلام دفنها بين الأمواج ؟
كأن تفكر كيف تجرأ بنو إسرائيل وطلبوا رؤية الله جهرة لما عميت قلوبهم وعجزوا عن رؤيته فيها ؟
كأن تفكر وتستغرب من الشيطان أن أبى وتأبى عن السجود وقال لرب العزة: “أنا خير منه” الآية. ويصعب على عقولنا أن تتصور كيف لهذا أن يقول ما قال وهو بحضرة الله وقد رأى نعيم الجنة بألوانه وأطيافه التي لا تخطر على قلب بشر، ونلعن الشيطان كل يوم ولا نستطيع أن نقول لآدمي مثلنا “لا” .
وأفكر أحيانا في شخصية الشيطان، أو إن جاز التعبير (كاريزما الشيطان) وأرى أن الكثير أو قل معظمنا يفتقدها؛ لأنه يستطيع السيطرة على السواد الأعظم منا “إلا عبادك منهم المخلصين” الآية. وهؤلاء قلة قليلة ممن يقاومون الشيطان ويقدرون عليه. كيف لهذا المخلوق المهان على ألسنة البشر أن يفعل كل ذلك ؟ لا شك أن له شخصية قوية لم تتح لنا الدنيا اكتشافها ولو من بعيد، وإلا لما قال “لا” لمن بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما .
والشيء بالشيء يذكر فتحضرني قصيدة “كلمات سبارتاكوس الأخيرة” لأمل دنقل:
المجد للشيطان معبود الرياح
من قال “لا” في وجه من قال “نعم”
وبالحديث عن “لا” الشيطانية يعزف ألبير كامو على الوتر نفسه قائلا: “الإنسان المتمرد هو إنسان يقول “لا””
وبهذا قد تكون لا الشيطانية عودة بنا لتأويل التصور الإنساني عن الشيطان بشكل مغاير .
وقد تفكر أحيانا في الشعراء وكيف يشيدون مملكتهم بخيط عنكبوت، ويبنون قلاعهم على الماء، ويرسمون الحب على جسد غيمة بعيدة، وكيف ينقشون من الكلم سحرا ! وأجزم أن كل شاعر حقيقي لا يشبهنا إلا في صفة الآدمية، عدا ذلك هو كائن آخر يوحى إليه من واد عبقر ربما ! ولا غرابة في مذهب التحليل النفسي أن يكون الإبداع حالة مرضية أو جنونية لا فرق.
أذكر المتنبي والمعري والطائي والخنساء ودرويش وكيف غمروا الدنيا بسحرهم أحياء وأمواتا، وما الموت إلا لمن طواهم النسيان وعاشوا على رصيف الحياة لا خلاق لهم من الذكر، أما رب القصيدة فخالد مخلد وباق ما بقي الإنسان.
يتاح لك في تازغين السفر عبر الزمن لتقف على ناصية بادية السماوة، وتسائل أبا الطيب عن ادعاء النبوة، وعن سر طموحه الذي ناطح السحاب، أو عن وصوليته التي جعلته يتمنى أن يكون ملكا على الملوك لا على الدهماء، كما لك الوقت لتسأله عن عفته أوتجنب مغامرات النساء، وطلب مجد القصيد بعيدا عن الغزل إلا ما ندر، ولك أن تسأل رهين المحبسين عن عزلة الناس ولزوم الوحدة ولعن الدنيا ومن فيها، وأي معاناة ألمت به وجعلته يصرخ شعرا: “تعب كلها الحياة” ؟ ويختار المكوث في سجونه كما أفصح:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث
فأي قدرة لإنسان أن يربأ بنفسه أزيد من أربعين سنة، ويوثر العزلة حتى بعد الوفاة، ويطلب أن يدفن وحيدا لا قبر يؤنسه !
ويكفيك الوقت في تازغين لتسأل تماضر بنت عمرو عن لوعة الفراق وبؤس الإنسان بعد فقدان الأبناء، ولك أن تشاركها حزن فراق صخر، ولك ان تسألها كيف لحب صخر أن يجاوز حب الأبناء، فظل دمعها مدرارا وما انطفأت جذوته ولا خبا أواره مهما تقلبت الأيام وتبدلت الأحوال، وتحاصرك الأسئلة عن مودة خناس لأخيها وكيف بكته بكاء ما عرفه الأوائل ولا استوعبه البواقي. وتذوق صدق القول:
تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحقَّ لهَا
إذْ رابهَا الدَّهرُ إنَّ الدَّهرَ ضرَّارُ
لاَ بدَّ منْ ميتة ٍ في صرفهَا عبرٌ
وَالدَّهرُ في صرفهِ حولٌ وَأطوارُ
ولك أن تجالس درويش وتسأله كيف نظم قصيدة مديح الظل العالي على ذلك الشكل الدائري، ولما تبدو القصيدة كالحلقة لا يدرى بدايتها، وكأنه كتبها وجمعها بشكل غريب غرابة الشعراء ؟ ولك أن تسأله عن مجد فلسطين وعن القدس ويافا وعكا، وعن عشق القهوة والتغني بطقوسها كما يصف الزهاد مجالس الله ويعدون نعمه بل تعب.. وتسأله عن فشله في تجارب الزواج مرتين، فكان الطلاق بمعروف .
وتسأله عن الإحساس بشدة وطأة الإبداع وأزمة الشعر والشعراء حتى كشفت القصيدة مكنون النفس في قوله: ولكن قيل ما سأقول …
أو قوله:
ربما نسي الأوائل وصف شيء ما
لأوقظ فيه عاطفة وحسا
أهو اعتراف بعجز المتأخرين أم بفضل المتقدمين ؟
ولك أن تسافر على جناح أهل الصفاء وترى التجلي وترتقي لمقام القرب، وما ذاك بغريب فتقترب من الحضرة الصوفية وتجالس الحلاج وتستفسر عن قوله: “أنا الله” وقوله “نحن روحان حللنا بدنا” فلك هناك معرفة المعرفة مع العارفين، وتعبر من الحلول الحلاجي إلى جنون البسطامي وشطحاته مثل قوله: “سبحاني ما أعظم شاني” و “ضربت خيمتي إزاء العرش” ثم تسافر إلى صاحب الفتوحات المكية وتتأمل أي سحر أودعه فيها ! ولك أن تعاتب الشيخ الأكبر عن شرح ديوانه “ترجمان الأشواق” وتذهل كيف اجتمع حب جارف تجاه النظام ابنة شيخه مع حبه لله وكيف امتزج الحب الإلهي السماوي مع الحب الإنساني الأرضي .
ولك وقفة مع مولانا جلال الدين الرومي واطلب المعرفة في جنون أهل الصفاء وفي قصيدة الناي ما يغنيك عن السؤال .
وتعجب كيف عاش أهل الباطن غرباء وأخذوا أسرارهم معهم، لا يبلغ الشطح الصوفي إلا من تذوق وذاق فسكر وخمر العاشقين تثمل القلوب وتحلق بها إلى مراقي ومقامات لا تبلغها نفوس الصغار ولا تستوعبها عقولهم .
في تازغين ترى الموج يتراقص على معزوفة حزينة سعيدة، مألوفة غريبة في آن، تشبه رقصة زوربا عندما ألمت به المحن والمصائب، أو ذلك الرجل الذي رأى موجة عظيمة مقبلة وهو على متن قارب صغير فلم يجد بدا من ترديد أغنية جميلة يضاجع بها الموت .
في تازغين يعم الصمت وتخرس الأصوات إلا حفيف الشجر وترنم طائر يخاطب المدى، كأن القرية تنتظر معجزة أو تنتظر نبيا يعيد فيها الحياة، وربما دثرها الحزن للحنين إلى الغائبين وأمجادهم، فهنا وقريب من هنا خطا محمد بن عبدالكريم الخطابي، ومن هنا موضع معركة أنوال الخالدة حيث رجع الإسبان داحرين، في تازغين يناطح الحضور الغياب وتتشابه الأيام والفصول وتشل الحركة ولا صوت يعلو فوق صوت الموج .
في تازغين تحاصرك الذكريات وتقف مع الذات وقوف العذارى أمام المرآة فتجد الوقت كاف لتغزل الهموم وتعالج نفسك على نار هادئة، فتشفى من دائك أو يصير الداء دواءً .