لا شك ان الموارد المائية هي عصب الحياة، ومحرك كل القطاعات الاقتصادية في أي مجال ترابي بل ان غياب او نقص هذا المورد قد يؤثر على الحياة الاقتصادية لأي تراب وقد يجعل منه مجالا عقيما ومعطلا وان توفرت المحركات الاقتصادية الأخرى (موقع استراتيجي، بنيات تحتية، موارد ترابية…). وبذلك يمكن القول بأن الربط بين المسألة المائية والتنمية ليس مجرد ربط سطحي فحتى عند استقرائنا لتاريخ المنطقة نجد أن بعض الأحداث التاريخية كانت مرتبطة بالجفاف وضعف الموارد المائية ومنها على سبيل المثال أحداث 1984 التي جاءت في سياق سنوات جفاف عمت كل البلاد مما أثر على النشاط الرئيس للساكنة آنذاك وهو الفلاحة غير ان توفر الخزان السطحي في بعض جهات البلاد لطف من حدة الأزمة على عكس ما هو موجود بحوض كرت.
ان هذا التقديم لا ينبغي ان يفهم منه الاستسلام “للقدر” او الانصياع للحتمية الطبيعية التي فرضت هذا الضعف في هذا المورد الحيوي، بقد ما ينبغي ان يفهم منه التنبيه الى ضرورة وضع اليد على الداء الحقيقي، والتشخيص الصحيح لكوابح التنمية من أجل وضع سياسات ترابية ترتقي بمستوى التنافسية للتراب، وتحديد أولويات التدخل لتحقيق التنمية بمفهومها الشامل التي تستهدف الانسان.
وقبل الحديث عن إشكالية التنمية بحوض كرت وعلاقتها بأزمة الموارد المائية، لا بد أن نشير الى ان المقال لا يتناول الإرادة السياسية للمسؤولين ودورها في تأخر أو تطور التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإنما التركيز هنا سيكون منصبا على العوائق الطبيعية باعتبارها عوائق لها حلول ان توفرت الرؤية الاستراتيجية للتنمية، وتوفرت الإرادة التي ينبغي ان تتبنى هذه الرؤية.
يعتبر حوض كرت من المجالات التي تعاني من ضعف الإمكانات المائية، فأمام غياب أي خزانات سطحية تظل الفرشة المائية هي المصدر الرئيس للتزود بالماء لمختلف الاستعمالات. غير ان هذا المصدر يظل مهددا بالنظر الى وضعيته الهشة اذ يتوفر الحوض على فرشتين سطحيتين ضعيفتي المساحة والتعمق وهما فرشة الكرت التي تنتشر على مساحة 400 كلم2 تحت سهل حوض كرت الأوسط، وتتواجد مياهها على عمق يتجاوز 10 أمتار في معظم السهل، بينما يتجاوز العمق 60 متر ما بين تفرسيت وبن الطيب. أما حجم المياه المتواجدة بالفرشة سنويا فهو مرتبط بحجم التساقطات السنوية اذ ترتفع كمية المياه داخل الفرشة خلال السنوات الرطبة وتتراجع خلال السنوات الجافة. ويقدر مخزونها المائي بين 17 و21 مليون م3، تستخرج منها للاستعمال بالإضافة الى ما قد تفقده بطرق أخرى 15 الى 18 مليون م 3. أي أن الحصيلة المائية في هذه الفرشة الضعيفة تتراوح ما بين 2 و3 مليون متر مكعب في السنة. ثم فرشة أزلاف التي تشمل مساحة 60 كلم2، عمقها يقل عن 20 متر وتغذيها المياه المطرية التي تنحدر نحو منخفض أزلاف والتي تقدر بحوالي 1 مليون متر مكعب في السنة من المياه. تبقى هذه الفرشة صغيرة اذ لا يتعدى مخزونها 3 مليون م3 وتستعمل مياه هذه الفرشة لتزويد مراكز ثلاثاء أزلاف وقاسيطة بالمياه الصالحة للشرب. إلا أن هذه الفرشة تطرح بعض الإكراهات في حالة الإفراط في استغلالها، تتمثل في انخفاض مستوى المياه وتزايد عمقها وتراجع جودتها. خاصة وأن درجة ملوحتها مرتفعة في بعض الأماكن حيث تصل 5جرام في اللتر. كما أن قربها من السطح يجعلها عرضة لتلوث بحيث عان السكان بهذه المنطقة من مجموعة من الأحداث التي أدت الى تلوث الفرشة المائية منها تسرب المياه العادمة من المطمورات ومقذوفات معاصر الزيتون المتواجدة بالمنطقة الى المياه الجوفية.
هذه الهشاشة في وضعية هذه الفرش يعني سرعة استجابتها لعوامل الاندثار المتمثلة في زيادة الضغط وتردد سنوات الجفاف وبالتالي عدم القدرة على التعافي وفقدان التوازن ما بين ما يتم استخراجه للاستغلال وما يتم تعويضه عن طريق التساقطات.
ان التخطيط والبحث عن حلول لتجاوز وضعية الهشاشة وحل إشكالية الموارد المائية بهذا المجال لابد أن يمر من تحليل للوضعية المناخية، وفهم وتتبع الجفاف الذي يزيد من حدة الإشكالية في مجال يعاني أصلا من ندرة الموارد المائية. وبإدراكنا لذلك يمكن القول بأن أي حالة جفاف طويلة مشابهة لموجة الجفاف التي عرفتها المنطقة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي يمكن أن تؤدي الى أزمة حقيقية في الموارد المائية، خاصة وان الحاجيات أصبحت كبيرة مقارنة مع الماضي نتيجة التزايد السكاني من جهة وتغير العادات الاستهلاكية من جهة ثانية.
لقد أدى الضعف في التعبئة وتدبير المسألة المائية الى ضعف استغلال المؤهلات التنموية الاقتصادية التي تعتمد على الموارد المائية، وخاصة المؤهلات الفلاحية المتمثلة في المساحات الشاسعة من الأراضي السهلية بالكرت (سهل الدريوش) وجزء من الكارب (الجزء الغربي من سهل تزطوطين)، بالإضافة الى ذلك تظل الموارد السياحية بالمجال (شواطئ، غابات، مواقع تاريخية وتراثية…) هي الأخرى غير مستغلة نتيجة ضعف الإمكانات المائية التي من شئنها أن تزود الاستثمار في مثل هذه القطاعات. إذن فكل هذه الإمكانيات الاقتصادية بحاجة الى تعبئة الموارد المائية من أجل الشروع في استغلالها وتحريك الدينامية الاقتصادية في هذا المجال الذي تعتمد فيها الساكنة كليا على عائدات الهجرة وتجارة التهريب من أجل تعويض ضعف الأنشطة الاقتصادية الأخرى. وبالإضافة الى ذلك فهذا المعطى (ضعف الموارد المائية) يؤدي أيضا الى تأخر في تزويد المراكز الحضرية والقروية المتواجدة بهذا المجال بالماء الصالح للشرب اذ تظل مراكز الدريوش وميضار وبن الطيب فقط هي المستفيدة من الربط بالشبكة المائية انطلاقا من جلب هذا المورد الحيوي من سد محمد الخامس، غير أن هذا الحل يبقى ظرفيا إذا ما نظرنا الى التراجع المهول للإمكانيات المائية لهذا السد وزيادة الطلب من جهة أخرى.
ان الاستمرار في هذه الوضعية وعدم التفكير في حلول جدية من شأنه أن يأخر من بعث وتنشيط الدينامية الاقتصادية بهذا المجال وأمام غياب رؤية استراتيجية لتجاوز هذا الإكراه سيظل المجال طاردا للسكان فيما ستظل الموارد الاقتصادية على حالها دون استغلال. إن ما يجعل التفكير في حلول وتدبير الإشكالية المائية بهذا المجال امرا ملحا هو التماشي مع الاستراتيجية الاقتصادية التي اعتمدها المغرب والتي تعتمد بالدرجة الأولى على قطاعين رئيسين وهما الفلاحة والسياحة وكلهما يتطلبان حاجيات مائية كبيرة بل ان الاستراتيجية التنموية لإقليم الدريوش نفسه مرتكزة على هذين القطاعين. فأي أفق تنموي لمجال حوض الكرت في غياب حل لهذه الأزمة المائية؟ وماهي الخيارات التي يمكن ان تتبناها الدولة في النهوض بهذه المنطقة في حال عدم رغبتها في معالجة الإشكالية المائية؟
انطلاقا من معرفتنا بصعوبة تزويد هذا المجال بالموارد المائية من خارج المنطقة مثل سدي مشرع حمادي ومحمد الخامس نتيجة عامل البعد وسد عبد الكريم الخطابي نتيجة عائق التضاريس وأيضا ضعف حصيلته المائية يمكننا الجزم بأن أي حلول ترقيعية سيكون مصيرها الفشل إذا لم تكن حلولا نابعة من استثمار إمكانات هذا المجال. ولذلك يمكن طرح بعض التوصيات البسيطة التي يمكن أن تشكل أولوية المسؤولين من أجل إخراج إقليم الدريوش من بوتقة الضعف التنموي والتي قد تخفف من إشكالية أزمة الموارد المائية بالمنطقة وتمكن من استغلال الموارد الاقتصادية المتاحة التي ظلت معطلة بسبب الإشكالية المائية وهذه التوصيات هي على الشكل التالي:
بناء سد على واد كرت لتجميع مياه الجريان السطحي التي يظل مصيرها الأن هو الضياع، من أجل الاستفادة منها في فترات الشح وتخفيف الضغط على الفرشة المائية. هذا السد الذي سينشأ على واد كرت سيمكن من سقي كل المجال السهلي في السافلة كما سيمكن من تزويد المراكز الحضرية والقروية بالمنطقة بالمياه الصالحة للشرب.
إنشاء محطة لتحلية مياه البحر على اعتبار قرب البحر من المنطقة، ستساهم في توفير الموارد المائية الكافية لاستغلال مختلف القطاعات الاقتصادية المتواجدة بالمجال.