بقلم : يوسف أقرقاش
كان من المفروض أن تتضمن هذه الورقة فكرة عامة عن تاريخية استعمال عبارة المصادر الموثوقة في الكتابة الصحافية، من دون ذكر اسم هذه المصادر ولا تحديد هويتها؛ كما كان من المفروض أيضا أن تتضمن مقارنة بين الكيفية التي تعامل بها الجيل الأول من الصحافيين المغاربة مع مصادرهم الموثوقة، والصورة التي تحضر بها هذه الأخيرة عند زملائهم في وقتنا الحاضر؛ لكن لما كانت الغاية من كتابة مقالات الرأي التفاعل مع الأحداث الجارية، فإننا سنرجئ هذه المواضيع إلى وقت لاحق، وسنكتفي فقط بالجزء الأخير منها، أي أننا سنكتفي بعرض الصورة التي تحضر بها فكرة “المصدر الموثوق” في زمننا الراهن؛ وسنختزل كل ما يتعلق بهذا الموضوع من خلال التطرق إلى سيرة صحافي مرموق، نال الحظوة في المجال الصحافي، وصار اسمه لا يخلو منه لسان، لاسيما وأنه لم يكتف بـ”امتهان” الصحافة، بل زاوج بينها وبين التدريس في الكلية نفسها التي تعلم فيها أبجديات الصحافة.
لقد حظي هذا الصحافي بشهرة واسعة بفضل المقالات التي كان ينشرها في مجلات مختلفة، وخاصة تلك التي كان يحررها لفائدة مجلة الجمهورية الجديدة بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي فاقت مبيعاتها 80000 عدد أسبوعيا. وقد مكنته هذه التجربة من أن يكتشف ماهية الصحافة والدور المنوط بها اجتماعيا وسياسيا. وهو في هذا لا يختلف كثيرا عن الانطباع العام الذي أُلصق بالصحافة منذ نشأتها باعتبارها عملا صعبا وشاقا، إنها “مهنة المتاعب” إن شئنا أن نتحدث بلغة الصحافيين أنفسهم.
ترتبط صعوبة العمل الصحافي أساسا بأمرين اِثنين؛ فهي من جهة أولى موجهة إلى النخبة من حيث الرسالة، لذلك فهي تساهم بشكل أو بآخر في صناعة القرار الذي يخص المصلحة العامة، أو بالأحرى مصلحة النخبة نفسها؛ ولأنها من جهة ثانية لا يمكن أن توجد وتستمر في الوجود من دون صلات مباشرة أو غير مباشرة مع هذه النخبة التي تزودها بالأخبار والمعلومات. وحين يتعلق الأمر بمصادر الخبر، يصير الصحافي كما لو كان “رجلا مفقودا في الصحراء ويبحث عن شجرة ليتبول”، على حد تعبير صاحبنا.
إن “العثور على شجرة في الصحراء” هي المهمة التي يقوم بها المسؤول عما يُنشر في أي جريدة أو مجلة. ويذكر الرجل أن اختبار المقالات داخل مجلة الجمهورية الجديدة كان يستغرق حوالي ثلاثة أيام، بدءا بتحرير المقالات على الحاسوب مع التصحيح والتصويب، قبل أن تُعرض على محررين آخرين للتأكد من مضامينها، ومن ثم تُعرض على محرر ثالث للتأكد “من كل تاريخ، ومن كل عنوان، ومن كل اسم، ومن كل قول”؛ وإذا كانت ثمة ملاحظات، تعود إلى المحرر الأول من أجل التصويب. وبعد كل هذا التمحيص والتدقيق تُعرض مضامين المجلة كاملة على مستشار المجلة لاستباق أي مشكل أو أزمة يمكن أن تتعرض لها المجلة؛ وفي حالة الموافقة، يُسمح لمضامين المجلة أن ترى النور.
إذا كان نظام التحقق أو المراقبة في مجال الصحافة بهذه الصرامة، فليس من السهل التلاعب بما يُكتب ويُنشر؛ غير أن صاحبنا لا ينظر إلى الصحافة بهذه الصورة، مادام أنه يتوجب على الصحافي قبل أن يرتدي بذلة الطبيب والتركيز على أدق التفاصيل، عليه أولا أن يسأل نفسه هذه الأسئلة: لمن يكتب؟ وما الذي يجذب القارئ إليه؟ وكيف يتفاعل الناس مع ما يُنشر؟ وبمجرد ما أن تُطرح هذه الأسئلة سيتبين لكل صحافي أن نظام التحقق أو المراقبة نظام عقيم، ولا يمكن أن يفيد الصحافة في شيء؛ أو بالأحرى إنه لا يمكن أن يفيد إلا فيما يخص المقالات العادية، أي المقالات ذات المصادر العامة، أما المقالات التي يكون فيها الصحافي هو مصدر المعلومة، أو أن مصدره لا يتجاوزه، فلا يمكن للآخرين، في هذه الحالة، أن يتعرفوا على “المصادر الموثوقة” إلا إذا استعانوا بالعرافين والمنجمين.
وهذه الحالة الأخيرة هي ما ينطبق تماما على صاحبنا الذي نال حظوة ما بعدها حظوة عند زملائه الصحافيين والقراء عامة؛ فقد كان يعتني أيما عناية بمضامين المقالات التي يكتبها، ويعنونها بعناوين لا تخطئها العين، ولعل أهمها المقال المعنون بـ”قراصنة الكمبيوتر”، الذي يعرض فيه قصة إيان ريشيل، وهو طفل عبقري مهووس بالحاسوب، استطاع اختراق بيانات شركة جوكت ميكرونيس وعرض على صفحاتها صورة امرأة عارية موقعة باسمه المستعار. ولما كان من الصعب على زملائه من داخل مجلة الجمهورية الجديدة ومن خارجها الوصول إلى مثل هذه الشخصيات التي تثير فضول الناس، فقد نال صاحبنا شرف السبق الصحافي عندما التقى الطفل العبقري، وحضر اللقاء الذي جمعه بممثلي شركة جوكت ميكرونيس التي قررت توظيفه كمستشار في الأمن المعلوماتي للحيلولة دون تكرار اختراق صفحاتهم الإلكترونية.
لقد كان هذا المقال بمثابة القنبلة في عالم الصحافة الأمريكية، لأنه لا أحد من الصحافيين في هذا البلد استطاع التحدث إلى الطفل العبقري، علما أن في هذا البلد من المجلات ما يفوق 16800 عدد؛ لكن بمجرد ما بدأت الأسئلة تُثار حول الكيفية التي رتب بها صاحبنا لقاءه مع الطفل المعجزة، بدأت الأسئلة أيضا تتشعب لتخص مكان وزمان عقد هذا اللقاء، وتمتد لتثير اسم الشركة وعنوانها وأرقام هواتفها وسجلاتها التجارية. وكان كل جواب عن أي سؤال من هذه الأسئلة فرصة للتدقيق أكثر في مصادر قصة “قراصنة الكمبيوتر”؛ ولما كانت مجلة الجمهورية الجديدة هذه المرة أمام امتحان عسير لكشف حقيقة مصادر هذه القصة، فقد حاول صاحبنا أن يرد كل هذه الأسئلة بتزوير بعض المعلومات والوثائق، وكثيرا ما كان، حين لا ينفع التزوير، يكتفي بالقول إن لديه مصادره الخاصة والموثوقة، والتي من الصعب الكشف عن تفاصيلها نظرا لحساسية الموضوع. غير أن هذا الجواب ما كان لينقذ سمعة المجلة، ولا استمرار عقدها مع الناشر، لذلك لم يكن من بدّ إلا طرد صاحب “المصادر الموثوقة”، والاعتذار عن الأخطاء التي ارتكبتْها المجلة عندما سمحت بنشر مقالاته من دون التدقيق في كل تفاصيل مضامينها.
لقد كان الطرد من المجلة أمرا مؤلما لصاحبنا، بيد أنه لم يأسف على كل ما حرره من مقالات، حتى وإن كانت الشخصيات والأحداث المضمنة في مقالاته من محض خياله ولا صلة لها بالواقع، لأنه لم يكن يسجل “إلا ما يفعله الناس، وما يحركهم، وما يخيفهم”، وكان مقتنعا أكثر بكون “الصحافة فنّ أسر السلوك لا غير”.
إن معنى قول “الصحافة فن أسر السلوك”، حتى وإن جاء على لسان ستيف غلاس Steve Glass، وهو بطل فيلم الزجاج المحطم Shattered Glass الذي صدر سنة 2003 للمخرج الأمريكي بيلي راي Billy Ray، يتكرر في فيلم آخر صدر سنة 2001 بعنوان أخبار الملاحة البحرية The shipping news، وهذا الأخير في الأصل عمل روائي صدر بالعنوان نفسه للكاتبة آني بروكس Annie Proulx. يقدم الفيلم الأخير العمل الصحافي كما لو كان ارتجالا خاليا من أي مهنية أو جدية، حينما يعرض بطله الرئيسي كشخص بسيط وعاطل عن العمل، من دون شواهد ولا مؤهلات لممارسة الصحافة، لكنه مع ذلك سيتوفق في الحصول على وظيفة في إحدى الصحف المحلية لبلدة ساحلية نائية. في الواقع، لقد تردد الرجل كثيرا في قبول هذه الوظيفة، غير أن رئيس التحرير يسّرَ عليه المهمة بالقول إن كتابة المقالات الصحفية ليس بالأمر الصعب، فيكفي أن يقوم المرء بنزهة على الشاطئ ويلقي ببصره في الأفق، وبمجرد أن تقع عينيه على سحابة عابرة يعود إلى مكتبه ويكتب مقالا حول هبوب عاصفة مدمرة قد لا ينجو منها أحد من ساكني البلدة. غير أن هذه النصيحة ما كانت لتُقلل من تردد الرجل فتيلا، وبالكثير من البساطة والدهشة اعترض على النصيحة بالتساؤل عماذا لو لم تحدث العاصفة؟ ليجيبه رئيس التحرير مرة أخرى بالقول إذا لم تحدث العاصفة ستكتب في الغد مقالا آخرا تتحدث فيه عن نجاة البلدة من إعصار محقق.
ولعل ما قيل في الفيلم الأول، وما جاء به الفيلم الثاني، سيتكرر أيضا عندنا في بلدنا العزيز، غير أن هذه المرة ليس على مستوى العمل الفني، بل سيتكرر حقيقة؛ فخلال الأسبوع الذي سبق أسبوعنا هذا، وبالضبط يوم 15 غشت 2024، ستنشر جريدة لكم على موقعها الإلكتروني مقالا بعنوان “خاص وحصري: توقع إطلاق سراح قادة حراك الريف في 20 غشت”. ولما كنا ننظر إلى هذه الجريدة بنوع من الجدية، نظرا لما يتمتع بها صحافيوها من مصداقية، فقد اعتقدنا أن ما كان “خاصا وحصريا” قبل 20 غشت، سيصير عاما ومتاحا للجميع بعد هذا التاريخ، لكن لا شيء من ذلك حصل.
في الواقع، ثمة تشابه كبير بين “المصادر الموثوقة” لدى جريدة لكم والمصادر الموثوقة التي استند إليها بطلا الفيلمين السابقين، لكن يبقى هناك دائما اختلاف جوهري بين الصحافة كعمل فني والصحافة كممارسة بالفعل؛ إننا على الأقل نعرف طبيعة مصادر ستيفن غلاس بطل الفيلم الأول، ونعرف حقيقة اليوم الثاني للعاصفة المدمرة في الفيلم الثاني، لكننا لا نعرف إلى اليوم طبيعة “المصدر الموثوق” لجريدة لكم؟؟؟